[color:b10b=green][size=24]“في وقت، نحن فيه أحوج ما نكون إلى “النموذج”: نموذج الفرد الذي يؤدي عمله وهو يرى ربه معه، في كل ما يأتي من أمر أو ينتهي عن نهي؛ نموذج الفرد الذي يتعامل مع مجتمعه، من خلال تعامله مع ربه.. لنا أن نلقي نظرة على تاريخنا وتراثنا، تاريخنا العربي وتراثنا الإسلامي؛ نظرة نرى من خلالها بعضاً من تلك “النماذج” التي استطاعت أن تنتقل، أو تنقل نفسها بالأحرى، من رعاة إبل جفاة غلاظ يشعلون الحرب لأوهى الأسباب، إلى قادة وهداة؛ قادة إلى الحق، وهداة إلى الله الواحد الأحد، عبر آداب القرآن الكريم، وأحكامه”.
أخرج مسلم (ج،1 ص 357)، عن أم الدرداء، قالت: قال أبو الدرداء رضي الله عنهما: “لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، في يوم شديد الحر، وما فينا صائم الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة”.
هذا هو: عبد الله بن رواحة.
هو أحد النقباء في بيعة العقبة..
وهو أحد القادة الثلاثة في غزوة مؤتة..
ولد في يثرب، وبين سهولها ووديانها ترعرع عوده، وعلى رباها الخضر وفوق عيونها الثرة بالماء، أرسل أجمل الألحان وأعذب الأشعار..
فكان “ابن رواحة”، رضي الله عنه، كاتباً في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيراً.. وكان شاعراً، ينطق الشعر من بين ثناياه عذباً قوياً.. ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب شعره ويستزيده منه.
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس متخفياً من كفار قريش، مع الوفد القادم من المدينة، هناك عند مشارف مكة، يبايع اثني عشر نقيباً من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان “عبد الله بن رواحة” واحداً من هؤلاء النقباء: حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدت بيعتهم هذه للهجرة، التي كانت بدورها منطلقاً رائعاً لدين الله، الاسلام..
وعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع، في العام التالي، ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان “ابن رواحة” واحداً من الأنصار المبايعين..
وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، الى المدينة، واستقرارهم بها، كان “عبد الله بن رواحة” من أكثر الأنصار عملاً لنصرة الدين ودعم بنائه.. وكان من أكثرهم يقظة لمكائد “عبد الله بن أبي”، والذي كان أهل المدينة يتهيأون لتتويجه ملكاً عليهم قبل أن يهاجر الاسلام اليها..
ففي غزوة بدر، كان له دور بطولي في محاربة المشركين من قريش. وعندما دعت قريش للمبارزة، كان “ابن رواحة” من أوائل المتقدمين الداعين الى المبارزة، وخرج معه “عوف بن الحارث”، وأخوه “معوذ”.
وحين اضطر المسلمون لخوض القتال دفاعاً عن دينهم، وعن أنفسهم، حمل “ابن رواحة” سيفه في مشاهد: بدر، وأحد، والخندق، والحديبية، وخيبر..
وكان “عبد الله بن رواحة”، من قبل هذا ومن بعده، شاعراً.. وقد جعل شعاره دوماً، في كافة تلك الغزوات، هذه الكلمات من شعره: “يانفس الا تقتلي تموتي”.. وصائحاً في المشركين في كل معركة وغزوة:
“خلوا بني الكفار عن سبيله.. خلوا، فكل الخير في رسوله”
وعندما جاءت غزوة “مؤتة”، وكان “ابن رواحة” ثالث الأمراء (مع “زيد”، و”جعفر”)، وقف، رضي الله عنه، والجيش يتأهب لمغادرة المدينة.. وقف ينشد ويقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال اذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا
أجل.. تلك كانت أمنيته، ولا شيء سواها: ضربة سيف أو طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء الظافرين.
وتحرك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوهم، حذروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل..اذ رأوا صفوفاً لا آخر لها، وأعداداً تفوق الحساب.
ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فأصابهم الوجوم، وقال بعضهم: “فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فاما أن يمدنا بالرجال، واما أن يأمرنا بالزحف فنطيع”..
بيد أن “ابن رواحة” نهض وسط صفوفهم، قال لهم:
“يا قوم..
ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..
فانطلقوا .. فانما هي احدى الحسنيين: النصر أو الشهادة”.
وهتف المسلمون الأقل عدداً، الأكثر ايماناً: “قد والله، صدق ابن رواحة”.
ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقتال الضاري..
والتقى الجيشان، وسقط الأمير الأول “زيد بن حارثة” شهيداً، وتلاه الأمير الثاني “جعفر بن أبي طالب”، حتى أدرك الشهادة في غبطة..
وتلاه ثالث الأمراء “عبد الله بن رواحة”، فحمل الراية من يمين “جعفر”.. وعندها، استجاش كل قوى المخاطر في نفسه، وصاح:
أقسمت يا نفس لتنزلنه... مالي أراك تكرهين الجنة؟؟
يانفس الا تقتلي تموتي... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت... ان تفعلي فعلهما هديت
(يعني بهذا صاحبيه اللذين سبقاه الى الشهادة: زيد، وجعفر)...
ولولا كتاب سبق بأن يكون يوم “مؤتة” موعده مع الجنة، لظل يضرب بسيفه جموح الروم المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل دقت معلنة بدء مسيرته الى الله، فصعد شهيداً..
هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة.. فتحققت أغلى أمانيه:
حتى يقال اذا مروا على جدثي... يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا
نعم يا ابن رواحة: “يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا (!!).
نعم.. لقد استشهد “عبد الله بن رواحة”، بعد أن وقف على مشارف أرض الروم، وكأنه كان يقول لمن يأتي بعده من جنود المسلمين: هذا هو الطريق، لنشر دين الله، في تلك البقاع، معبد مهيأ، بعد أن ارتوى بدماء الشهداء.
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
19-10-2005 [/size][/color]