[color:0f0c=orange][size=24][center]
الحمد لله ربّ العالمين والصـلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
اللغة العربية من أرقى الساميات لفظاً وسعة، وأرقى اللغات دلالة وفصاحة، وأشدّ ما يلفت فيها أنها لغة إيجاز، تعتمد على التركيز والاقتصاد على الجوهر، والتعبير بالكلمـة الجامعة والاكتفاء باللمحة الدّالة، فتومئ بإشارات معبّرة موحية إلى معاني خصبة وغزيـرة، وهي في ذلك تعني إثراء الذوق ورقي الدلالة في البلاغة العربية .
ومن الأساليب البليغة التي تضمنتها اللغة نتبع أثر الإيجاز في العربية بصورة عامة، ابتداءً من الأسـاليب الإعجاز الإلهي في القرآن الكريم، والإعجاز النبوي الذي أوتي صاحبه - صلى الله عليه وسـلم - مجامع الكلم، ثم ألوان الكلام العربي التي اشتهر بها العرب من الحكم والأمثال والشعر والخطب، وبصورة خاصة الشواهد التي تدل على بلاغة الإيجاز، والتنبيه على أن الإيجاز في اللغة العربية ليس مجرد أسلوب من أساليب التعبير، وكونه نداً للإطناب أو نوعاً من بلاغة الأسلوب، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك عندما نقتفي خطاه الواسعة، فندخل في جوانب لغوية أخرى، كالصوتي واللغوي والبلاغي، وهذا الجانب الأخير كان للإيجاز معه شأن كبير وحظ أوفر فيما تضمنته من أساليب وفنون بلاغية، وكيف تكون هذه الألوان لونا من الإيجاز ؟
إن للإيجاز خصائصه التي تميز بها في الساحة اللغوية، وأكسبته دلالة بلاغية ومكانة عالية في اللغة العربية ، وما يلفت الانتباه في لغة العرب أنها لغة إيجاز، وكيف أن كلمة واحدة فيها أو جملة واحدة تحتوي على ألوان من المعاني المختلفة والمتشبعة التي يتلاعب خيالها في ذهن المرء بسماعه لهذه اللغة ، كان العرب حينذاك شـديدي الحرص على الإيجاز في لغتهم، وقد كانوا يعمدون إلى حذف الحـرف والكلمة والجملة والجمل إذا وجدوا أن المعنى تمّ بدونها، ويقتصرون على الإشارة المعبرة الموحية إلى المعنى دون السرد الممل .
وهكذا كانت السجية العربية الأولى تميل إلى الإيجاز، واللقطات الإيحائية في تعبيرها حين يُغني اللمح عن التفصيل، وهذا ما نلمسه في أمثلتهم السائرة وخطبهم المتقطعة إلى فواصل كثيرة، وفي جعلهم البيت وحدة قائمة بنفسها.
وفي صدر الإسلام كان العرب يجعلون من الإيجاز عماد بلاغتهم وركن فصاحتهم، وكانت هناك عوامل مصاحبة مع قيام الدولة الإسـلامية دعت إلى هذا المطلب البلاغي في لغتهم، إلى جانب أنه طبع وسـليقة في اللغة العربية، وقد جاء أن الإيجاز طبيعـة في الشـعوب السـامية التي تتصـف لغاتها بأنها لغات إجمالية، تعتمـد على التركيـز والاقتصاد على الجوهـر والتعبير بالكلمة الجامعـة والاقتفاء باللمحـة الدالـة.
والإيجاز بعد أن كان روح وطبع صار اجتهاداً وروية وتدريبات، ويقول فيه الحكماء: "البلاغة علم كثير في قول يسـير"، و"خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يملّ"، وعمر رضي الله عنه يقـول: "ما رأيت بليغاً قط إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة"، وهذا بعض ما جاء في الإيجاز من أقـوال. والإيجاز يسمى في بعض الأحيان بالاختصار، وقد يذكره بعض العلماء في كتبهم بالإشارة، وله تعريفات ومفاهيم مختلفة لدى أصحاب البلاغة واللغة، وأول من تعرض للإيجاز هو العسـكري في كتابه "الصناعتين"، وقد عرف الإيجاز بأنه: " قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقـدار الحاجة فهو فضل".
وقال السكاكي: الإيجاز أداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف. وعند الرمـاني: البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ، وقد قد جاء في تفسيره للإيجاز بقوله: إذا كان المعنى يمكـن أن يعبر عنه بألفـاظ كثيرة، ويمكن التعبير عنه بألفاظ قليـلة، فالألفاظ القليلة إيجاز. أما الجاحظ فقد قال في ذكر حقيقة الإيجاز: "الإيجاز ليس يعني به قلة عدد الحروف واللفظ، وإنما ينبغي له أن يحذف بقدر ما يكون سببا لإغلاقه أي يراد به حذف ألفاظ أو جمل من الكلام مالا يتسبب في إخلال المعنى أو التقصير فيها".
وفي الحقيقة أن الإيجاز كان له نصيب من الاهتـمام لدى القدماء، فإلى جانب ما ذكرناه من أقوال وتعريفات يجـدر منا ألا نغفل الإشـارة إلي أن "أرسـطو" قد ذكر الإيجـاز في كتابه "الخـطابة"، وكان مما جـاء فيه: واعلم أن الكلام ربما نفع إيجازه حين يـراد الإفهـام ،
هكذا، وإن تباينت بعض النظريات والمفاهيم في تعريف الإيجاز، إلا أنها كلها تتفق على دلالة الإيجاز في الكلام عن طريق الإيحاء، لتناوله للمعاني بصورة أوسـع وأرحب حين يطلق سراح الذهن ويتجول فيها كيف شـاء بدون قيود أو حدود، مادامت يتملكها اللفظ بالتفسير أو التأويل. ولا ينبغي أن يكون مقياس البلاغة في الإيجاز قله عدد الحروف فقط، بل عما يحمله اللفظ من معنى، وما يثيره من صور وأفكار، وقد يكون بذلك أدني إلي الفصاحة المتمة لصورة الإيجاز في البلاغة الحقيقية.
الإيجاز ليس في بحوث علم البـلاغة فحسـب، إنما اللغة العربيـة ذاتها لغة إيجـاز، وكثيراً ما تسلك الأساليب العربية مسـلك الإيجاز في الكلام العادي بغير قصد إلى الجمال في التعبير أو تزيين الكلام به، فقد يكـون الإيجاز في الكلام لدواعي أخرى تدعـو إليه غير الدواعي البلاغيـة، فكثيرا ما تسـلك مسـلك الإيجاز في صـياغتها للكلام، من حروف الكلمة، أو مفردات الجملـة، أو تركيب الجمل، أو قطعة كاملـة للكلام في موضوع معين.
لقد أعز الله سبحانه وتعالى اللغة العربية بكتابه المجيد القرآن الكريم الذي يحمل بين سـطوره آيات تحمل معان بليغة بألفاظ فصيحة، وقف الإنسان عاجزا ومذهولا أمام هذه الآيات القرآنية التي جاءت معجزة لا يقدر عليها البشر.
والقرآن منذ نزوله كان محط اهتمام وبحث العلماء، ينقبون مواطن جماله ويفتشون عن أسراره، ونتيجة النظر والبحث "أجمع العلماء على الإعجـاز البياني والبلاغي في القرآن"، وبرز أعلام من العلماء في هذا الميدان منهم "الجرجاني" و"الخطابي" و"الرماني".
ونجد في الآيات القـرآنية أن الإيجاز إعجاز بلاغي، فإذا تدبرنا الآيات عرفنا مدى بلاغة الإيحاء والاخـتصار وتأثيره على النفس وأسـره للفكر، ونورد هنا قبسات من القرآن الكريم تدل على ذلك:
يقول تعالى : { خـذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } الأعراف 199 ، فهذه الآية جامعة لمكـارم الأخلاق ؛ لأن في أخذ العفو التساهل والتسامح في الحقوق، واللين والرفق في الدعاء إلى الدين، وفي الأمر بالمعروف كف الأذى وغض البصر وما شـابهها من المحرمات، وفي الإعراض الصبر والحلم والتؤدة .
يقول تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21، في الآية أمرَ عباده أن يعتبروا وقرب ذلك عليهم ، حيث أن في كل شيء من خلق الله عز وجل للإنسان عبرة إلا أن أقربها أقصرها على أمر نفسه.
يقول تعالى : { ولا يحيق المكر السـيئ إلا بأهـله} فاطر 43، أي من يضـمر لغيره شـراً يعـود عليه، ويتناسـب هذا مع قولهم: من حـفر حـفرة لأخـيه وقع فيه .
يقول تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} سورة البقرة 228 وهذا كلام يشمل جميع ما يجب للنساء على الرجال من حسن المعاشرة وصيانتهن وإزاحة عللهن وكل ما يؤدي إلى مصالحهن، كما يشـمل ما يجب للرجال على النساء من طاعة الأزواج وحسن المشـاركة في السراء والضراء والسعي إلى مرضاته وحفظ غيبتهم وصيانتهم عن خيانتهم.
[/center][/size][/color]