[size=18][center]
[b]بناء النفس
كل ما يريده الإسلام هو أن نبني أنفسنا من الداخل، أن نوجد فيها الخير والعزم والإرادة، وأن نجعل صراعاتها خارج النفس لا داخلها، أن تكون حرب الدنيا المهلكة حربًا خارج النفس لا داخلها، فليس المسلم شخصا يضبط طبيعته، يقهرها مرة وتقهره مرة، ولكن طبيعته تضبط شخصها فهي قانون وجوده.
لماذا الدعوة لبناء ذات المسلم؟
لأن فشل الإنسان في بناء ذاته يعني فشله في اتخاذ قراراته بوعي، وإخفاقه في القدرة على الفعل.
إن الحرية هي القدرة على الفعل والتأثير في الآخرين، ومتى ما أصبح الفرد قادرا على امتلاك ناصيته فإنه سيملك إرادة الفعل والقدرة على التأثير.
لذلك فإن أزمة الأمة الحقيقية هي فقدان الفرد المسلم لقدرته على التحكم بذاته، وهذه الأزمة خلَّفت ركامًا هائلاً من الضعف، والوهن، والتخلف، والتبعية، وجعلت المسلم عاجزًا عن استخدام فكره وحيويته لتحقيق وجوده الإنساني، وهو السبب الذي خلقه الله تعالى له، وهو الدور الذي قام به الأنبياء والرسل عليهم السلام، عبر بث الروح والحياة في الفرد، وإيجاد روح التكامل الذاتي فيه، وإيقاظ عنصري الحرية والفعل في نفسه، ومن ثَمَّ بث كل ذلك في المجتمع.
لقد عبَّر القرآن الكريم عن ذلك تعبيرًا بديعًا حين قال تعالى مبيِّنًا حكمة بعث محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ".
إنه إذن تحرير الإنسان من مخاوفه، من قيوده وأثقاله، ثمَّ بث الثقة بقدرته وحريته، وتحريك روح المسئولية في داخله، ليعطي انعكاسًا حقيقيًّا للمسلم في عالمه الخارجي. وتناغم ذات المسلم وداخله مع خارجه يأتي بالمعجزات.
كيف نبني ذواتنا؟؟
يقوم بناء الذات على نقطتين أساسيتين:
1- تأسيس.
2- إلغاء.
1- التأسيس
- متابعة الأحداث يوميًّا وباستمرار:
بدءًا بما يجري في محيط العالم الإسلامي، ثم ما يرتبط بهذا العالم من أحداث تحدث خارجه، ثم ما يحدث في العالم كله.
وينبغي أن تكون هذه المتابعة واعيةً ناقدة، لا مجرد استعراض أو قبول مطلق بكل ما يقال، ولكن إيجاد نظرةٍ ثاقبةٍ تقرأ ما بين السطور، وتربط ما بين الأحداث، وتفهم ما أمامها وما وراءها.
ويجب ألا تقتصر هذه المتابعة على وسيلة دون غيرها، أو رافد دون سواه، بل كلما نوعنا الوسائل، وكلما وسعنا دائرة الروافد، كان العائد أكبر وأكثر إفادة، فلا نقتصر على الجرائد فقط، أو على التلفاز، وإنما نقرأ هنا، ونطالع هناك، ونستمع للمذياع، ونتابع المواقع على الإنترنت، ولا نكتفي عادةً بجريدةٍ أو محطة تلفازٍ واحدة، وإنما ننوع ونشكِّل.
- القراءة كنزٌ لا يفنى:
فالقراءة هي الوسيلة الممكنة لكل فرد في عملية التثقيف الذاتي، ومجتمع المسلمين هو مجتمع "اقرأ". ولنفهم كم من المعلومات يمكن أن نحصِّله من القراءة نقوم بحسبة بسيطة: لو قلنا إن من سيقرأ في العشرين من عمره، وقرر أن يحصل على معلومةٍ واحدةٍ فقط كل يوم، إذن هي 365 معلومة في السنة، فلو قرأ هذا الشخص لمدة عشرين عامًا فقط، فتكون حصيلة معلوماته: 365 × 20 = 7300 معلومة، ولنتخيل كم سيتضاعف هذا الرقم لو بلغ عدد المعلومات اليومية 5 أو 6 أو 10 معلومات.
فالقراءة خطوة أساسية في برنامج بناء الذات وخلق الوعي، والمطالعة هي مفتاح المعرفة. وكي تكون قراءةً حقيقيةً مؤسِّسة، يجب أن تكون متنوعةً متعدِّدة المشارب والعلوم، ولا تقتصر على ما نحبُّ من علومٍ دون غيرها، فنقرأ في معظم المجالات، ونهتم بمعرفة كل ما يمكننا معرفته.
وخير القراءة التي تبني الذات هي القرآن الكريم، ورمضان الخير هو شهر القرآن الكريم، فلنجعله فعلاً شهرَ القرآن الكريم، فيكون القرآن الكريم وسيلة قراءتنا الأهم، ونستمر على ذلك ما حيينا.
ويمكن الاطلاع على كيفية القراءة بمنهجية عبر الرابط التالي: في حفظ القرآن.. تقوية الذاكرة.. القراءة المنهجية: كلمات وبرامج
- إعداد الدراسات والأبحاث:
ويفضَّل أن نبدأ بما نحب، وأن تكون بالكيفية التي تتناسب وخصوصيات مجتمعاتنا، لتوفير تراكم معرفيٍّ حول القضايا الحيوية، ولخلق حوار حول الموضوعات، والإنترنت وسيلةٌ تسمح لنا بالبحث والحصول على المعلومة وإعدادها بشكلٍ جيدٍ وسهل.
- توجيه المواسم والمناسبات الدينية والاجتماعية:
من الجيد توجيه هذه المواسم في خدمة بناء الذات وخلق الوعي، وأخص بالذكر شهر رمضان لما له من قدرة على تغيير أنماط وعادات الحياة، وتصحيح مسارات سلوك المسلم، إضافةً إلى ما يتمتع به الشهر الكريم من خصوصيات اجتماعية وتربوية ودينية وثقافية.
- اكتب فليس المرء يولد كاتبًا:
كثير منا من قد يملك مهارة الكتابة، ولكن لم تُتح له الفرصة ليكتشفها، وكم خسرت أمتنا أساليب كان من الممكن أن تحرِّك الجبال لو ظهرت ومارست وتدرَّبت، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" رواه البخاري، لذلك كان الأسلوب وسيلةً مهمة في توصيل المعلومة، فما كل من كتب قد كتب، وما كل من خطَّ قد أثَّر، وكلنا يشهد بانجذابه لكاتبٍ دون آخر، واقتناعه بأحدهما رغم أنهما قد يكونان قد عالجا القضية نفسها.
والكتابة لا تقتصر فوائدها على من يقرأ، بل هي في الأساس من أنجع الوسائل لتنمية الذات، ولنتخيل رجلاً "أدمن" الكتابة، وكتب في كل ما يجيد الكتابة فيه، ترى هل سيتوقَّف قلمه؟ إنه محتاجٌ لزادٍ جديدٍ يمارس عبره إدمانه هذا، حينها سيقرأ ويقرأ ويقرأ، وستبقى القراءة مفتاح قلمه ومحركه.
إن إهمالنا لإيجاد الوعي في نفوسنا وفي أمتنا يسبب العديد من المشاكل التي تصل بنا إلى الضياع، ومن هذه المشاكل:
- عدم فهم اللغة التي يتخاطب بها الناس من حولنا، سواءً على مستوى الألفاظ ومدلولها، أم على مستوى الأساليب وأبعادها.
- عدم القدرة على استقراء اتجاهات الأحداث في العالم.
- العجز عن وضع الخطط المناسبة للتحرُّك.
- فقدان الثقة بالنفس.
- آخرها وأهمها ضياع الفرصة على العالَمين بالاطلاع على نور الهداية حين يعجز أهل هذا النور عن حمله حق حمله، والقيام بواجبه كما أمر ربنا سبحانه وتعالى.
2- الإلغاء
مرحلةٌ تسبق وتتواكب وتلي مرحلة التأسيس، وهي في كل أحوالها مبنيةٌ على قيام المسلم بتفريغ قلبه ونفسه من كل داءٍ أو علةٍ أو مرض، ومن كل ما تتركه هذه الآفات من آثار وترسُّبات ضارة، فعملية البناء كي تتم بشكل مناسب يجب أن تتم عملية طردٍ وإحلال، طرد لكل الآفات وترسباتها، وإحلال مكانها مبادئ بناء الذات وسلوكياتها، وما لم يبنِ المسلم نفسه على أساسٍ نقيٍّ متين فسيبقى بنيانه على حرفٍ وعلى شفا جرُفٍ هارٍ يوشك أن يتهاوى ويقع.
إن على المسلم أن:
- يراجع نفسه باستمرار، ويلاحظ سلوكياتها، ويقوِّمها.
- يحاسب نفسه بدقةٍ مع كل خطأٍ يخطئه أو هفوةٍ يقع فيها، من أين أتت؟ ولِمَ وقعت؟ وألا يترك الأمر للظروف.
- يتخلَّص من أمراض السلبية والإهمال والكسل والجهل والرجعية أيًّا كان شكلها أو موضوعها.
- يثق في دينه وينتمي له، ويتخلى عن التبعية لأي كيانٍ أو جهةٍ غير دينه وربه تعالى.
إن استخدام العديد من المسلمين لكلماتٍ مثل "قدَّر الله وما شاء فعل"، "خيرًا إن شاء الله"، وغيرها لتبرير خطأٍ وقعوا فيه بسبب الإهمال أو قلة المبالاة لهو استخدامٌ خاطئٌ للشرع، فما كان الله تعالى ليسامحنا على إهمالنا، ولا كان تقديره سبحانه لتبرير لا مبالاتنا.
هذه الكلمات تُستخدَم حين نقوم بواجبنا حق القيام، ونأخذ بالأسباب، ثم تكون النتائج على غير ما نتوقع، حينها يكون قدر الله تعالى، ويكون فيه الخير إن شاء الله تعالى وإن بدا غير ذلك.
الإلغاء ليس أمرًا صعبًا:
لقد قال الله تعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها"، وقال سبحانه: "وهديناه النجدين"، وقال جلَّ شأنه: "إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا".
هذه الآيات الكريمات تبين أن الإنسان في أعماق نفسه مفطورٌ على الخير. ومعنى "ألهمها": أفهمها، ومعنى "هديناه": عرَّفناه، وكلاهما يحصل بالوعي والإدراك والعقل، فالإنسان ليس –كما يظن الكثيرون- مجبولاً على الخير والشر معا، وأن الأمرين موجودان في فطرته، ولكن النفس البشرية بطبيعتها سوية، والانحراف أمرٌ طارئ تواجد بفعل عوامل خارجية، طمست على قلب الإنسان، وحجبت وعيه وإدراكه، ولا يوجد في الآيات ما يشير إلى أن الشر والفجور طبيعة نفسية قد فطر الله تعالى عليها الإنسان، وما دام الشر بكل أشكاله أمرًا طارئًا وليس أصيلاً في النفس، فالسيطرة عليه وإلغاؤه لن يكون أمرًا صعبًا إذا صدقت النية وصحَّ العزم، ووافق هذا الإلغاء ملء المكان وتأسيسه على تقوى من الله ورضوان.
مسألة بناء الذات بشقيها "التأسيسي" و"الإلغائي" هذه مسألة ضرورية وأساسية كي يبني المسلم بعد ذلك مجتمعه وأمته والعالم من حوله، ولو سأل الإنسان نفسه لماذا تركنا -نحن المسلمين- سبيل التقدم وقيادة الركب، وقام بها الآخرون، بالرغم من أنَّ لدينا أمرًا صريحًا من الله تعالى بأن نكون أمة الشهادة والقيادة؟ فالإجابة أنَّ قيادة الركب يجب أن تتمَّ بغضِّ النظر عمَّن سيقوم بها، وهذه سُنَّة الله في الكون، التي ستحدث بالتأكيد، والأمر متروكٌ بعد ذلك للمسلمين، يستفيدون منها بكونهم الأوفق مع سنن الكون أو لا، فالله سبحانه وتعالى قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحقّ"، ولو وعى المسلمون هذه الآيات وفهموها، وبنوا بها ذاتهم وثقافتهم، لكانوا ساعدوا أنفسهم وقادوا العالم، وقاموا بدورهم المنوط بهم إن بناء الذات يجب أن تظهر نتائجه في تفعيل هذه الذات، فإنما الأفعال مغاريف القلوب، والسلوك مصداق القول.[/b]
منقوووووووووول[/center]
[/size]