[color:fbf5=blue][size=18]“والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب(39) أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور(40)” (النور).
حينما يتحدث الناس عن السماء والشمس والقمر والكواكب والنجوم والشجر والدواب فإن البشر جميعاً يشتركون في معرفة هذه المخلوقات ويعايشونها، لا فرق في ذلك بين شرقي وغربي ولا بين بدوي أو قروي أو مدني، وكذلك فإن البدوي حين يتحدث عن مخلوقات الله والظواهر الكونية في الآفاق حوله فإن حديثه سيكون عن الصحراء والرمال والجبال والإبل والخيل والبغال والحمير وغير ذلك من مخلوقات يراها في تلك البيئة الصحراوية فهو لا يدري شيئاً عما سوى ذلك ولا خبرة له بها.
وحين يتحدث سكان الشواطئ ومرتادو البحر للصيد أو للسفر أو للتجارة، فإنهم يتحدثون عن البحر والأمواج والعواصف والأعاصير، وعن الأسماك والحيتان والقوارب والسفن المختلفة الأحجام ويتحدثون عن خيرات البحر من لؤلؤ ومرجان.
ولذلك حين يحدثنا مقيم بالصحراء داخل جزيرة العرب لم ير البحر ولم يركب البحر بل لم ير الأنهار، حياته كلها في مكة المكرمة وما حولها أو المدينة المنورة وما حولها، حين يحدثنا عن السراب فإن حديثه سيكون متوقعاً حيث تلك الظاهرة المشهورة في حياة الصحراء وحر الصحراء والرمال المنبسطة على مدى البصر، أما حين يحدثنا عن البحر وأمواجه وأسراره ويخبرنا عن أشياء لا يعرفها معاصروه ولم يكتشفها العلماء إلا بعد مئات السنين فإن حديثه ذلك يكون معجزاً بمختلف المقاييس.
سراب خادع
وهكذا يحدثنا الرسول عليه الصلاة والسلام وحياً من عند الله سبحانه وتعالى ضارباً المثل للذين كفروا بصورتين متتابعتين ومتميزتين عن بعضهما بعضاً، ومؤديتين للمعنى المطلوب تماماً، صورة من الصحراء الحارة شديدة الحرارة، وصورة من البحر وما فيه من أسرار لم نعرفها إلا حديثاً جداً.
أما السراب فهو خيال ووهم لماء ونبات لا وجود له في الحقيقة، رغم أن كل الناس تراه بأعينها من بعيد كمساحة كبيرة من الماء يتقلص حجمها كلما اقترب الرائي منها حتى إذا وصل الى موضعها لم يجد ماء ولا زرعاً وإنما أرضاً ساخنة حارة وشمساً محرقة، بل إن كثيراً من راكبي السيارات على الطرق السريعة في الصيف يرون الماء على الاسفلت أمامهم ثم يختفي حينما يصلون إليه أو قريباً منه، وذلك ان حرارة الشمس الشديدة تؤدي الى تسخين طبقات الأرض السطحية فتتصاعد منها موجات من الهواء الساخن الذي يؤثر وجوده في انعكاسات الأشعة محدثاً تلك الصور الخيالية وكأنك ترى سطحاً من الزجاج أو الماء على سطح الأرض، ولذلك فإن السراب عادة لا يرى في الشتاء أو الجو البارد.
ذلك مثل أعمال الذين كفروا، يرونها بأعينهم ماثلة أمامهم فيتجهون إليها لتنقذهم مما هم فيه من عناء وعذاب (يوم الحشر والحساب) فإذا هي سراب خادع لا وجود له، انتهت بانتهاء الحياة الدنيا وبقي لهم الحسرة والندب والعذاب، بعكس أعمال المؤمن الباقيات الصالحات المنجية له من كل عذاب وشدة.
فهل رأيت السراب أخي المسلم؟ وإذا رأيته فتذكر ذلك المثل المعبر من أعمال الذين كفروا، واسأل نفسك: هل كانت أعمالك خالصة لله سبحانه وتعالى وابتغاء مرضاته واتباعاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم؟ أم أنها كانت لأغراض أخرى ولنيل كسب دنيوي فهي مثل ذلك السراب الذي تراه أمامك وتحاول الوصول اليه ولكن هيهات، فهو وهم وخيال.
صورة من الأعماق
ويفاجئنا القرآن الكريم بصورة أخرى لأعمال الكفار تعقب صورة السراب مباشرة، صورة من أعماق البحار، تلك البحار التي لم يرتدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدرس عنها شيئاً رغم ذكره لنا عن طريق الوحي أسراراً لم يكن يعرفها أحد ولمئات السنوات من بعده، فمن ذا الذي يعرف أن بين البحرين برزخاً يمنع اختلاطهما أو طغيان أحدهما على الآخر؟ ومن ذا الذي يعرف أن ماء البحر ملح أجاج، وأن الأجاج هو ما في ماء البحر من مرارة ثبت أنها تعود الى ما فيه من أملاح غير كلوريد الصوديوم المالح؟ وذلك مثل أملاح المنجنيز والماغنسيوم التي هي سبب مرارته المشوبة بملوحته، ومن ذا الذي كان يعرف أن من السفن ما هو في ضخامته كالجبل يسير فوق الماء ولم يكن هناك ناقلات بترول ولا حاملات طائرات، ولم يكن أحد وقتها يعرف ما هي جبال الثلج العائمة في مناطق القطبين الشمالي والجنوبي، وغير ذلك من عجائب البحار وغرائبها مما لم يكن يعرفها الناس وقتها، فما بالنا بسكان الصحراء الذين لا يعرفون شيئاً عن البحار غير ما يأتيهم عنها من أخبار تزيد من معرفتهم بها غموضاً وتزيدهم خوفاً منها ومن ارتيادها.
وهنا يأتي إعجاز تلك الآية الكريمة عن ظلمات البحر وعن أمواجه، فمن كان يدري ان أشعة الشمس وضوءها لا يستطيعان اختراق ماء البحر إلا لمسافات محدودة، بعدها يبدأ الظلام تدريجياً كلما ازداد عمق الماء حتى نصل الى مناطق إظلام تام لا يرى فيها الإنسان شيئاً، حتى لو نظر الى يده فلن يراها، وفي تلك الأعماق وهب الله بعض الأحياء البحرية في بعض المناطق القدرة على إصدار أضواء خافتة فتبدو كالنجوم السابحة في أعماق البحار.
وفي ذلك الظلام الدامس تتعدد تيارات الماء في البحار، وهذا من الاكتشافات الحديثة جداً، حيث تتحرك تلك التيارات في موجات بعضها فوق بعض ولمسافات تصل الى مئات وآلاف الكيلومترات، وقد يكون تيار الماء العميق هذا عذباً صالحاً للشرب وقد يكون مالحاً ولكنه مستقل ومتميز في تحركه وتموجه عما فوقه أو تحته من طبقات المياه، وقد يكون ذلك التيار بارداً وقد يكون دافئاً عما فوقه وتحته من مياه، ولكن تلك التيارات جميعاً تتفق في أنها مناطق مظلمة أو شبه مظلمة لكل من وصل إليها “إذا أخرج يده لم يكد يراها”.
أعمال الكفار
وصعوداً من الأعماق فإن طبقات الأمواج تتتابع حتى إذا وصل الإنسان الى سطح البحر حيث الأمواج التي يعرفها كل الناس وجد بحراً متلاطم الأمواج والسحب الكثيفة التي تمنع وصول ضوء الشمس فإذا به يخرج من ظلمات الى ظلمات وهول وفزع، فأين النجاة وأين المفر؟ وأين النور وأين الأمل؟
وهكذا يصور لنا القرآن الكريم أعمال الكفار في الدنيا، حيث تلهيهم الدنيا عن الآخرة، ويقومون بأعمال يظنون أنها خير، وأنها نافعة لهم يوم القيامة والحساب، وأنها النور الذي سيهديهم يوم الحساب، ولكنهم نسوا تماماً أنها أعمال لغير الله، وأنهم استمتعوا بها في حياتهم الدنيا، ولذلك فليس لها يوم القيامة وجود، وإنما هي ظلمات فوق ظلمات فوق ظلمات، كلما خرجوا من ظلمة وجدوا أحلك منها، فلا تنتهي الظلمات، ولا يأتيهم أي بصيص من نور يحمل اليهم الأمل، فالنور من عند الله وحده، وكيف يجعل الله لهم نوراً وهم قد نسوه سبحانه وتعالى وكفروا به رغم ما وصلهم من نذر ورسل تترى بالحق والهدى والآيات البينات “ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون” (الأحقاف: 20).
سنن البحر وقوانينه
والبحر مسخر بأمر الله له سننه المقدرة ومنافعه الكثيرة للبشر، فماؤه مملوء بالأسرار، وقاعه مملوء بالأسرار، لا يستطيع ماء البحر أن يحمل مسماراً ولكنه يحمل حاملة طائرات بها آلاف الجنود، وعشرات الطائرات والآلات والمعدات الحديدية التي تزن آلاف الأطنان، تحرك الرياح الطبقات السطحية منه على شكل أمواج تصل أحياناً الى عشرات الأمتار ارتفاعاً وتغرق أكبر السفن، ولكنها لم تغرق الفلك الذي صنعه نوح عليه السلام بأمر الله رغم ارتفاعها الشاهق “وهي تجري بهم في موج كالجبال” (هود: 42)، فهي مسخرة بأمر الله وجند من جنود الله تغرق من تغرق وتساعد من تساعد بأمر الله، فرغم عظمة تلك الأمواج فقد كانت السفينة تحمل نوحاً عليه السلام ومن معه و”تجري” بهم بسرعة وأمان، بينما أغرقت الأمواج نفسها الابن الكافر الذي رفض النداء الأخير من أبيه “وحال بينهما الموج فكان من المغرقين” (هود: 43).
هذا البحر المسخر بأمر الله أغرق الكفار من قوم نوح وحمل من آمن معه الى بر السلامة، ويأتينا خبر البحر مرة أخرى حيث انفلق بأمر الله ليمر منه موسى ومن معه من بني إسرائيل ولكنه ينطبق على فرعون وجنوده فيغرقهم أجمعين بأمر الله سبحانه وتعالى: “فأوحينا الى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرق كالطود العظيم(63) وأزلفنا ثم الآخرين(64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين(65) ثم أغرقنا الآخرين(66)” (الشعراء). وهكذا تتغير سنن البحر وقوانينه بأمر الله الواحد الأحد، فهل يتخيل أحد أن الماء يقف كجدار مرتفع كالجبل فلا يغرق موسى ومن معه حتى يمروا بسلام الى الشاطئ، ثم ينهار ذلك الجدار رجوعاً الى سننه الطبيعية فيغرق جيش فرعون بكامله، وكل ذلك من أنباء الغيب التي قصها القرآن الكريم على الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
فالبحر مخلوق من مخلوقات الله فيه القوة للخير أو للإهلاك والدمار، حسبما يأمره الله سبحانه وتعالى، فهو يعطي من الخيرات بغير حساب، يعطي لحماً طرياً وغذاء طيباً فيه الكثير من الفوائد الصحية والبدنية، ويعطي من اللؤلؤ والمرجان ما هو حلية وزينة، ويعطي البخار الذي يصير سحاباً يحمل الخير والحياة الى جميع أرجاء الأرض، ويعطي من الأملاح والطحالب وغير ذلك ما يستخدمه الإنسان في كثير من الأغراض الصناعية والطبية وغيرها.
وأخيراً فهذا البحر الذي لا ينتهي ماؤه مهما استهلكنا منه ضربه الخالق عز وجل مثلاً لبيان سعة علمه الذي لا نهاية له، وتدبر معي يا أخي قول الحق تبارك وتعالى في آخر سورة الكهف: “قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً(109)”، اقرأها مرة أخرى وتدبر معناها وتمعن في مدلولها لتدرك كيف أن علم الله لا يحطيه فكر ولا يستطيع إدراكه عقل.. وصدق الله العظيم الحكيم العليم.
من أنباء الغيب
“فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرق كالطود العظيم(63) وأزلفنا ثم الآخرين(64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين(65) ثم أغرقنا الآخرين(66)” (الشعراء). وهكذا تتغير سنن البحر وقوانينه بأمر الله الواحد الأحد، فهل يتخيل أحد أن الماء يقف كجدار مرتفع كالجبل فلا يغرق موسى ومن معه حتى يمروا بسلام الى الشاطئ، ثم ينهار ذلك الجدار رجوعاً الى سننه الطبيعية فيغرق جيش فرعون بكامله، وكل ذلك من أنباء الغيب التي قصها القرآن الكريم على الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
د. السيد السقا
منقول من جريدة الخليج
الإمارات[/size][/color]