[color:0100=#0000ff][center]
شُمُوليَّةُ الدِّينِ
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ
بسم الله الرحمن الرحيم
ومنه المعونةُ والسَّدادُ
شُمُوليَّةُ الدِّينِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛ فكم يُزعِجُ الغربَ الكافرَ ذلك المسلمُ اللَّطيفُ، اللَّيِّنُ في تَعامُلِه، الواضحُ في قولِه، الصَّادقُ في فعلِه، القويُّ في عزمِه، البصيرُ في أمرِه، الَّذي يُطبِّقُ الدِّينَ بشُموليَّتِه، عَقَدَ على قلبِه دينَ ربِّه، فصدَّق بذلك قولَه وفعلَه، وعَمِل بذلك قلبُه وجوارحُه، مُتمثِّلًا قولَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]، فلم يُفرِّقْ بينَ آي القرآنِ، وكلامِ الرَّحمنِ، ولم يجعلْه عِضِينَ كما قال اللهُ العظيمُ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحِجْر: 91] أي: أجزاءً مُتفرِّقةً، فيُؤمنون ببعضٍ، ويكفرون ببعضٍ؛ بل أخذه بشموليَّتِه، وفَهِمه بكاملِه، لا يُفرِّقُ بينَ آيِه، ولا يُجادِلُ في معانيه، بل يتَّبعُ أمرَ اللهِ ورسولِه ولو خالَف هواه، وينتهي عن نهيِ اللهِ ورسولِه ولو صادَم نزواتِه، ولقساتِ نفسِه.
هذا الصِّنفُ - العزيزُ- مِن أهلِ الإسلامِ حار فيه الشَّيطانُ، فاحتار فيه العدوُّ من بني الإنسانِ! وذلك لأنَّه يسيرُ إلى اللهِ وهو مُستشعِرٌ قولَ ربِّنا الرَّحمنِ: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّساء: 141]، وقولَه تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحجّ: 38].
هذا الصِّنفُ مُعتزٌّ بربِّه وبدينِه، فلم يَهِنْ ولم يَحزَنْ لأنَّه يعلمُ أنَّه هو الأعلى؛ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
هذا الصِّنفُ يعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ العِزّةَ للهِ ولرسولِه وللمؤمنينَ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المُنافِقون: 8]، ويعلمُ كذلك أنَّ الذِّلَّةَ والصَّغارَ للمُحادِّينَ للهِ ورسولِه من الكافرينَ والمُنافِقين؛ {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المُجادَلة: 20].
كم أقلَق الغربَ الكافرَ هذا الصِّنفُ من المسلمينَ! ذلك الصِّنفُ الَّذي يسيرُ على خُطًى ثابتةٍ، ومبادئَ راسخةٍ، لا يَتلوَّنُ ولا يَتبدَّلُ، ثابتٌ في قولِه وفعلِه، ليس له كُلَّ حينٍ ثوبٌ، بل ثوبُه أبيضُ ناصعٌ، وقلبُه كالمروةِ البيضاءِ، وعقلُه لم تَشُبْهُ شائبةُ المادِّيَّةِ العَفِنةِ، ولا المناصبُ المُنسِيةُ، ولا اللَّذائذُ المُشغِلةُ، ثبَّته اللهُ فثَبَت، وأعانه اللهُ فصَبَر؛ {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وقد ضرب النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لهذا الصِّنفِ مثلًا بشجرةٍ ثابتةٍ، صامدةٍ، قويَّةٍ، باسقةٍ، خضراءَ، نافعةٍ، باقيةٍ على هيئتِها ما كانَ فيها حياةٌ، لا تتساقَطُ ولا تتهاوى أمامَ العواصفِ والرِّياح، بل حتَّى بعدَ موتِها فهي نافعةٌ للنَّاسِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرةً لا يَسقُطُ وَرَقُها، وإنَّها مِثْلُ المُسلِمِ؛ فحَدِّثُونِي ما هِي». فوَقَع النَّاسُ في شَجَرِ البَوادِي. قال عبدُ اللهِ: ووَقَع في نَفْسِي أنَّها النَّخْلةُ، فاستَحيَيتُ، ثُمَّ قالوا: حَدِّثْنا ما هي يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «هِيَ النَّخْلةُ» [أخرجه البخاريُّ ومُسلِمٌ عن ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما].
عندَما يَتمسَّكُ المسلمُ بدينِه تَمسُّكًا ليس فيه تفريقٌ بينَ شرائعِ الإسلامِ؛ يكونُ ذلك غُصّةً في نُحُورِ أعداءِ اللهِ من الكافرينَ والمنافقينَ؛ لأنَّ سعيَهم الحثيثَ ورغبتَهم الأكيدةَ في أن نكونَ مِثلَهم، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النِّساء: 89].
نحنُ بحاجةٍ في هذا الزَّمَنِ إلى أقوامٍ يفهمون الدِّينَ فهمًا شموليًّا، ويتعاملونَ معَ الشَّريعةِ تعاملًا كُلِّيًّا، فلا يكونون ممَّن لا يأخذُ من الشَّريعةِ إلَّا ما وافَقَ هواه، وثبَّت له دُنْياه!
نحنُ بحاجةٍ إلى ناصحينَ صابرينَ مُخلِصينَ، لا يريدون إلَّا ما عندَ اللهِ - عزَّ وجلَّ-، وإن ضاع معَ هذا الصِّدقِ شيءٌ من دنياهم، فلم يَهِنوا لِمَا أصابَهم في سبيلِ اللهِ، وما ضَعُفوا، وما استكانوا، بل يعلمون أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ للأبرارِ، {مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّساء: 134].
ليستِ المسألةُ أن نفهمَ بعضَ قضايا الدِّينِ، ونُغفِلَ البعضَ الآخرَ، ونُطبِّقَ أجزاءً، ونَغفُلُ عن أجزاءٍ أخرى، بل اللهُ -عزَّ وجلَّ- قد أرسَل رُسُلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليكونَ مُهيمِنًا وظاهرًا على الأديانِ بشموليَّتِه؛ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصَّفّ: 9]، فيكون ظاهرًا ولو كَرِه ذلك المشركون، وتأمَّلْ قولَه تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فالمشركون لن يَرْضَوْا بهذا الدِّينِ بشموليَّتِه، بل يريدون منه ما يوافقُهم، ولا يصادمُ مُعتقَداتِهم!
فلا يمكنُ للدِّينِ أن يظهرَ إلَّا إذا فُهِم هذا الدِّينُ بشموليَّتِه علمًا وعملًا، فالهُدَى الَّذي جاء به الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كما في الآيةِ السَّابقةِ هو كمالُ العلمِ، ودينُ الحقِّ هو كمالُ العملِ. كما قرَّره شيخُ الإسلامِ في «فتاويه» (2/59).
لعلَّ ما له رميتُ بلغ، وما إليه قصدتُ وصل، فالدِّينُ كلُّه لُبٌّ، والشَّريعةُ كُلُّها كُلٌّ، ولكنْ أينَ الحاملونَ لِلِواءِ العِزِّ، الباذلون في سبيلِه الغاليَ والرَّخيصَ؟!
أسألُ اللهَ أن يُبرِمَ لهذه الأُمّةِ أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطَّاعةِ، ويُهدى فيه أهلُ المعصيةِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ ويُنهَى فيه عن المُنكَرِ، واللهُ أعلَمُ وصلَّى اللهُ وسلَّم على رسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
بقلم
الفقير إلى عفو سيده ومولاه
د. ظافر بن حسن آل جَبْعان
[/center][/color]