[color:a92a=blue][center][size=24]
يقول تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ... } [سورة الشورى : 20 ].
ويقول تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ سورة الإسراء : 19 ] .
حرث الآخرة :
الحرث عملية صعبة، فيها يتم شق الأرض وتقليبها، وإصلاحها إذا احتاجت إلى إصلاح، ثم تسميدها بما يقويها...الخ . هذه العملية المتعبة يمثلها الله سبحانه وتعالى لمن اختار الآخرة على الدنيا، فهو يقوم بمثل هذه العملية الشاقة، ولكنه لا يبتغي الزروع المأكولة، بل يريد ثمار الآخرة من رضوان الله عليه، ودخول الجنة، والوقاية من النار.
◄ فالحرث : هو العمل المكلف به من عند الله، وتنقية الأرض من الآفات والأحجار، هو تنقية هذا العمل من الرياء والخطأ، وحماية الزروع من الطيور والآفات داخل الأرض وخارجها، وهو الانتباه من شياطين الإنس والجن والنفس التي بين الجوانح، وفحص الأرض بين فترة وأخرى هو المحاسبة للنفس ومراجعته الأعمال ... هذه العمليات بالرغم من مشقتها إلا أن الحارث يجد متعة في عمليات الحرث، وراحة نفسية عظيمة لما سيعود عليه بالخير.
◄ حرَّاث الآخرة : فالشطر الأول من هذه المعادلة يبين الله فيه صفة حرَّاث الآخرة، ومن اختار الآخرة على العاجلة ليكون شرطاً في استحقاقهم الزيادة في الحرث، وشكر السعي الذي جاء ذكره في الشطر الثاني من المعادلة. هذه الصفات كامنة في كلمة " الحرث " وفي كلمة " السعي " و" الإيمان " ، و" إرادة الآخرة " حيث قال تعـالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ... } [ سورة الشورى : 20 ]. وقال تعالى في سورة الإسراء : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] .
وقال في الآية الأخرى من السورة نفسها قال : { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ... } .
فالإيمان صفة لازمة لكل عمل صالح، وهو الاعتقاد بوجوب العمل، وبأسماء الله وصفاته، وبالإخلاص بالعمل، وابتغاء وجه الله فيه، والجزاء الأوفى يوم القيامة وما يتصل بالإيمان من مستلزمات.. والحرث والسعي هي الهمة العالية ونبذ الكسل، والحركة الدائبة حتى مغادرة هذه الحياة في سبيل مرضاة الله، وتحقيق العبودية التي خلقنا من أجلها، ثم الهدف من هذا السعي هو " إرادة الآخرة " ، والعلم واليقين بأنها خير وأبقى.
◄ صفات حرَّاث الآخرة : ومن هذه الصفات الرئيسية التي ذكرها الله تعالى لحراث الآخرة، كشرط لاستحقاقها ما في الشطر الآخر من المعادلة، تتشعب صفات كثيرة منها:
* فهم حقيقة الدنيا :
فهم يفهمون الهدف من وجودهم في هذه الدنيا، ويعرفون حقيقة الدنيا، ويفهمون كيف يتعاملون معها، ويحذرون منها أشد الحذر، فقد ذم رجل الدنيا عند علي رضي الله عنه فقال : " الدنيا دار صدق لمن صدّقها، ودار نجاة لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها ،وشبَّهت بسرورها السرور، وببلائها البلاء، ترغيباً وترهيباً، فيا أيها الذام الدنيا، المعللُ نفسه، متى خدعتك الدنيا ؟ أم متى استذمت إليك ؟ أبمصارع آبائك في البِلَى ؟ أم بمضاجع أمهاتك في الثرى؟ كم مرَّضت بيديك؟ وعلَّلْتَ بكفيك، تطلب له الشفاء، وتستوصف له الأطباء، غداة لا يغني عنه دواؤك، ولا ينفعك بقاؤك " .
فهم لا يزهدون في الدنيا، أو يكرهونها لعلة فيها، بل عندما تكون وما فيها من الزينة سبباً في نسيانه لآخرتهم، وابتعادهم عن الهدف الذي خلقوا من أجله، أما إذا كانت لا تشغلهم ولا تبعدهم عن عبادة ربهم؛ فلا يذمونها، بل يحبون العيش فيها، والتزود منها لآخرتهم، لذلك عندما قرأ أحدهم قوله تعالى: { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [ سورة القصص : 77 ] قال : " ليس هو عَرَض من عرض الدنيا، ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك ".
تحمل خسارة الدنيا: فمن اختار الآخرة على العاجلة، فإنه قطعاً سيخسر بعض مكاسبها، ويتحمل خسارة الدنيا على خسارة الآخرة، ولهذا السبب فإن معظم طلاب الآخرة يخسرون الكثير من زينة الدنيا، ولا يحزنون لذلك، بل يستلذون هذه التضحية بالداني على الباقي، ويتحملون تلك الخسارة، بل يتوقعونها؛ لأنهم مستيقنون بأن سلعة الله الغالية، تحتاج إلى ثمن باهظ، والحور العين تحتاج إلى مهر غال، ولهذا السبب قلّ أن تجد من طلاب الآخرة تاجراً رابحاً؛ لأن دينه وآخرته تمنعه من كثير من الربح السريع، يقول عمرو بن مرة:'من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي' ، فهم يتحملون ضرر الدنيا، ولكنهم لا يتحملون ضرر الآخرة.
* لا يحبون الدنيا لذاتها: فلا يدخلون في قلوبهم سوى الله، وإن أحبوا الدنيا فإنما يحبون ما يقربهم إلى الله فيها، وما يكون سبباً في زيادة محبتهم لله فيها، لذلك كثرت العبارات التي تصدر منهم بما يؤكد هذا المعنى، خاصة عند احتضارهم:
* فعن أبي الدرداء أنه كان يقول: " لولا ثلاثة لأحببت أن أكون في باطن الأرض لا على ظهرها، لولا إخوان لي يأتوني ينتقون طيب الكلام كما ينتقى طيب الثمر، وأعفر وجهي ساجداً لله عز وجل، أو غدوة أو روحة في سبيل الله " .
* وكان آخر كلمات الصحابي معاذ بن جبل قبل وفاته: " اللهم إن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الشجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ".
* بل إن الحسن البصري يجعل حب الدنيا لذاتها من الذنوب فيقول:'لو لم يكن لنا ذنوب نخاف على أن أنفسنا منها إلا حبنا الدنيا لخشينا على أنفسنا منها، إن الله عز وجل يقول: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [سورة الأنفال : 67] . أريدوا ما أراد الله عز وجل'.
* حرص شديد على الوقت :
فهم أشد الناس حرصاً على الوقت أن يمضي دون الاستفادة من كل دقيقة فيه، ويسابقون الزمن حتى يملأوا صحائفهم بكل ما يرتفع إلى الله، ويعتبرون كل انشغال عن الآخرة من الخراب، فيقول يحيى بن معاذ:" الدنيا خراب وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها " .
ولكثرة انشغالهم في العمل لآخرتهم التي اختاروها على العاجلة فلا وقت لديهم ليتحدثوا عن الدنيا إلا بما لابد منه من تسيير أمورهم اليومية كالبيع والشراء وغيره، حتى أن أبا حيان قد روى عن أبيه عن التابعي الربيع بن خثيم يقول: " ما سمعت الربيع بن خثيم ذكر شيئاً من أمر الدنيا إلا أني سمعته مرة يقول : كم لكم مسجداً " .
ولئن كان البعض يرى في هذه الصورة شيئاً من المبالغة، فإنه ليس مطلوباً من الجميع أن يكونوا على قانون بن خثيم، وهمته العالية، فلا أقل من التقليل ما أمكن من الخوض فيما لا ينفع من أمور الدنيا، لأن ذلك قطعاً يشغل عن الآخرة، ولقد وضح الإمام الشافعي ذلك في عبارته المشهورة: " نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ".
* لا ينامون كثيراً :
ولقد وصفهم الله مادحاً فيهم هذه الصفة، فقال : { كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ سورة الذاريات : 17- 18]. ليس بسبب حبهم للسهر، أو إصابتهم بالأرق ولكن بسبب معرفتهم بأهمية الوقت، وعلمهم بأن النوم يسرق منهم الكثير من هذا الوقت الثمين، لذلك يقللون ساعات نومهم لاستغلالها بما يقربهم إلى الله تعالى .
فالأسبوع الواحد فيه ما يقارب 168 ساعة، ينام الإنسان فها من 50 إلى 60 ساعة، أي ما يعادل ثلث الأسبوع، وهي نسبة ليست بالقليلة، خاصة إذا ما عرفنا أن الثلثين الباقيين ليسا فارغين تماماً للاستغلال بل يتخللهما الكثير من فترات الطعام والعلاج والعمل والدراسة وصيانة البيت والسيارة وغيرها من الأوقات الضائعة.
* التفكر الدائم بالرحيل :
لقد رسم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنهج الرباني لمن أراد سلوكه، ومن ذلك التفكر الدائم بالموت، فقال : ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ) يَعْنِي الْمَوْتَ ، رواه الترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد. فمن أكثر ذكر الموت خاف انقطاع العمل مما يجعله أكثر شعوراً للوقت، فيدفعه ذلك لمسابقة الزمن، ومضاعفة البذل، لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ) رواه الترمذي . والإدلاج هو مواصلة السير، ولاشك أن من واصل السير في السفر يصل قبل ذلك الذي يكثر الوقفات والاستراحات، وكذلك أمر الآخرة، فمن اختارها على العاجلة جد في السير، وقلل الراحات، فلا راحة إلا تحت شجرة طوبي .
يقول ابن الجوزي:" من تفكر في قرب رحيله تشاغل بالتزود ".
◄ نتيجة اختيار الآخرة : فإذا ما حقق طلاب الآخرة الشطر الأول من المعادلة وهو:'إرادة الآخرة، والسعي لها، والإيمان' حقق لهم الله الشطر الآخر من المعادلة كنتيجة طبيعية لذلك الاختيار، وهي قوله تعالى: { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ... } [ سورة الشورى : 20 ].
ويقول تعالى : { كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ سورة الإسراء : 19].
قال الإمام القرطبي مفسراً قوله تعالى : { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } : قيل : نوفقه للعبادة، ونسهلها عليه.
وقيل : حرث الآخرة الطاعة، أي من أطاع فله الثواب. وقيل: { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي : نعطيه الدنيا مع الآخرة.
وقال الإمام الشوكاني: { كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } عند الله : أي مقبولاً غير مردود، وقيل : مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة.
◄ وعلى هذا تكون نتيجة اختيار الآخرة:
* التوفيق للعبادة.
* تسهيل العبادة والإعانة عليها.
* إعطاء الثواب.
* إعطاء الدنيا مع الآخرة.
* مضاعفة الثواب.
* قبول العمل .
[/size][/center][/color]